أرجوك لا تتعجب، ففي أزمنة القمع الأعمى، تتلاشى الفروق بين الأفكار والتيارات، وتتساوى الرايات المتناقضة في نظر السلطة. يصبح الناصري والماركسي والليبرالي، بل وحتى المسيحي، شركاء في تهمةٍ واحدة: الانضمام إلى جماعة إرهابية (الإخوان المسلمين). حسبما نشرت الصحف.
تهمة جاهزة ومريحة من عبث البحث عن تهم وجرائم لا وجود لها، تُغني عن النقاش والتمييز، وتوفّر للسلطة غطاءً شاملًا لكل ممارساتها. فمن السهل أن تقول: “كلهم إخوان”، بدلًا من مواجهة الحقيقة الأصعب: أن في البلد معارضة من أفكار وتيارات شتى، وأن في المجتمع طيفًا متنوعًا من الرأي والفكر والضمير.
من لا يحتمل التعدد لا يرى في السياسة ساحةً للاجتهاد أو الحوار، بل ميدانًا للضبط والسيطرة. كل صوت مختلف عندهم ليس فكرة بل تهديد، وكل اعتراض ليس رأيًا بل مؤامرة. ومن هنا تُصبح “تهمة الإخوان” المفتاح السحري لتفسير كل شيء: الصحفي الذي يكتب، والباحث الذي ينتقد، والمثقف الذي يسائل، وحتى الفنان الذي يلمّح. كلهم ـ عند اللزوم ـ إخوان.
هكذا تُختزل السياسة في ملف أمني، ويُعاد تشكيل الواقع وفق سرديةٍ واحدة لا ترى التناقضات ولا تعترف بها. فالماركسي الذي حارب الإسلام السياسي يُتهم بأنه جزء منه، والمفكر القبطي الذي دافع عن الدولة الوطنية يُدان بأنه “متعاطف”، والناصري الذي حمل حلم العدالة الاجتماعية يُدرج في القوائم السوداء بتهمة “التحريض”. لا أحد ينجو من الشبهة حين تتحول الدولة إلى جهاز مراقبة ضخم يبحث عن الأعداء أكثر مما يبحث عن الحقيقة.
ولعل ما هو أخطر من الظلم ذاته هو ما يُنتجه من نتائج سياسية وفكرية بعيدة المدى. فحين تُفرغ السلطة الساحة من التعدد، لا يبقى فيها إلا صوتها وصدى نفسها. يُختنق المجال العام، ويُقتل الاختلاف، ويُجبر المواطنون على الصمت أو على النفاق.
مع الوقت، تُصبح السياسة نفسها مستحيلة، لأن السياسة تقوم على الحوار، بينما القمع لا يعرف إلا التعليمات.
في مثل هذه الأجواء، تتحول “تهمة الإخوان” إلى لغةٍ رسمية، تختصر الموقف من كل معارض أو مستقل. لم تعد القضية: ماذا تقول؟ بل: من أنت؟ ومن وراءك؟ إنها عقلية الخطر الدائم التي تُدير بها الأنظمة الخائفة مجتمعاتها.
اللافت أن هذه الآلية تخلق نقيضها دون أن تدري. فحين تُتهم كل الأصوات بالانتماء إلى جماعة واحدة، تفقد التهمة معناها وتُصبح عبثية. وعندما يُدان المختلف والموافق على السواء، يكتشف الناس أن التهمة ليست عن “الإخوان” بقدر ما هي عن الاختلاف ذاته.
وهنا يتحول القمع إلى اعتراف غير مباشر بالعجز عن التمييز بين الخصوم، أو ربما برغبتها في ألا تميّز أصلًا. لأن التعدد يعني وجود بدائل، والبدائل تهدد احتكار السلطة للمشهد. فالأبسط والأضمن أن يُغلق المشهد كله بتهمةٍ واحدة تريح الجميع: “كلهم إخوان”.
من المستفيد فعلاً من وضع كل مختلف أو معارض أو صاحب رأي في سلة الإخوان؟
على السطح، يبدو أن السلطة هي الرابح، لأنها تملك تبريرًا جاهزًا لكل اعتقال أو إقصاء أو إسكات. لكنها، في العمق، تمنح الجماعة "الإرهابية" هدية سياسية لا تُقدّر بثمن.فعندما تُصبح تهمة “الإخوان” شاملة للجميع، تتحوّل الجماعة من فصيل محظور إلى رمز شامل للمعارضة في وعي الناس. أي أنها لا تُمحى، بل تُعاد إلى المشهد بثوبٍ جديد، ثوب المظلومية التاريخية.
السلطة، وهي تحارب الجماعة، تخلقها من جديد كل يوم. لأن المبالغة في العداء لا تُضعف الخصم، بل ترفعه إلى مرتبة الخطر الوجودي، وتجعله يبدو أكبر من حجمه الحقيقي. هكذا تتحول الجماعة من كيان سياسي إلى شبح يُطارد الجميع، حتى من لا علاقة لهم بها.
الأسوأ أن هذا الشبح يتضخم حتى يصل إلى حد العبث: فلا مانع من تعيين نتنياهو مرشدًا للجماعة في الخطاب الإعلامي،
ولا يُستثنى المسيحيون من تهمة الانتماء إليها، وليس ببعيد واقعة القبض على الباحث والروائي القبطي هاني صبحي.
هكذا يتكوّن مشهد عبثي: نظام يخاف من الإخوان أكثر مما يخاف من الفقر أو الغضب الشعبي، فيحوّل الجماعة إلى "شماعة دائمة" يعلّق عليها كل أزماته. والناس، حين يسمعون هذه التهمة تُلقى جزافًا على كل صاحب رأي، يفهمون الرسالة المعاكسة: أن الإخوان ليسوا جماعة بعينها، بل مجرد رمز يُستخدم ضد كل من يجرؤ على الكلام.
وبذلك، تساهم السلطة ـ من حيث لا تدري ـ في إعادة تأهيل خصمها، وتوسيع دائرة التعاطف معه.فالمفارقة أن الاستبداد، حين يُغالي في نزع الشرعية عن الجميع، ينتهي بمنحها لخصمه.
والتاريخ يعيد نفسه: في كل مرة تختصر الدولة المعارضة في “عدو واحد”، فإنها تزرع في وعي الناس أن هذا العدو وحده يمتلك الشجاعة على المعارضة. وحين يُغلق المجال أمام كل الوطنيين، فإن الشارع لا يجد أمامه إلا الصوت الأكثر تنظيمًا وقدرة على البقاء في الظل: جماعة الإخوان.
بهذا المعنى، السلطة لا تحارب الجماعة بل تستدعيها، وتعيش سياسيًا على وجودها. تحتاجها لتخويف الداخل، ولابتزاز الخارج، ولتبرير القمع الدائم.إنها علاقة كراهية واعتماد في آنٍ واحد: السلطة تكرههم، لكنها لا تستطيع أن تستغني عنهم. ولو زالوا فعلًا من المشهد، لاضطرت إلى اختراعهم من جديد.
هكذا تتغذى المعادلة الغريبة: كلما زادت السلطة بطشًا تحت ذريعة “مواجهة الإخوان”، زادت الجماعة حضورًا في الوجدان الجمعي، وكلما تراجعت التعددية، ارتفعت صورة “العدو الوحيد” إلى مقام الخصم التاريخي.
هي لعبة خاسرة بكل المعايير، لا يخرج أحد رابحًا منها سوى الخوف، فهو الحاكم الفعلي للطرفين معًا: سلطة تحكم بالخوف، وجماعة تنتعش من الخوف، وشعب يعيش بين خوفين.
--------------------------
بقلم: محمد حماد






